يسلط اليوم العالمي للغة العربية الذي يصادف في 18 كانون الأول/ديسمبر، الضوء على مساهمة اللغة العربية في الحضارة الإنسانية والتنوع الثقافي
في يومها العالمي.. اللغة العربية الجمال الذي لم تهزمه اللغات العابرة
في الثامن عشر من كانون الأول من كل عام، يقف العالم وقفة احترام أمام اللغة العربية في يومها العالمي، احتفاء بلغة لم تكن يوما مجرد أداة تواصل، بل كانت وما تزال وعاء حضارة، ولسان دين، وجسر علم، ومرآة هوية.
لغة سكنت النص المقدس، وحملت المعرفة عبر القرون، وتشكلت في حروفها ذاكرة أمة وأسئلة مستقبلها، في زمن تتسارع فيه التحولات وتشتد فيه التحديات.
وبهذه المناسبة، قدم الدكتور بشار الشريف، أستاذ اللغة والنحو العربي، قراءة في مكانة العربية من جذورها الدينية والتاريخية، وصولا إلى تحدياتها المعاصرة وآفاق مستقبلها.
اللغة العربية تتجاوز التواصل.. عالم حي نابض
يؤكد الشريف، أن العربية ليست أداة تواصل فحسب، بل عالم حي ينبض بالحياة، متجذر في أعماق التاريخ، متلون بأطياف الثقافة، ومفعم بروافد الفكر الإنساني.
فهي من أعرق لغات العالم، إذ يمتد تاريخها إلى أكثر من ثمانية عشر قرنا، وتعد الأغنى من حيث المفردات، بما يزيد على 12 مليون كلمة ونحو 16 ألف جذر لغوي، ما يمنحها قدرة فريدة على الاشتقاق والتعبير والدقة.
لغة القرآن.. قداسة المكانة وعظمة الاختيار
تنطلق أهمية اللغة العربية، كما يوضح الدكتور بشار الشريف، من مكانتها الدينية الفريدة، إذ اختارها الله سبحانه وتعالى لتكون لغة القرآن الكريم، فارتبطت قدسيتها بقداسة النص، وأصبحت لغة عبادة لأكثر من مليار مسلم حول العالم. بها تُتلى الآيات، وبها تُقام الصلوات، وبها يتصل المؤمن بربه، فغدت لغة روح ومعنى، لا مجرد أصوات وحروف.
حين كانت العربية لغة العالم
قوة اللغة من قوة أهلها. هذه القاعدة التاريخية تفسر كيف كانت العربية، في عصور ازدهار الأمة، لغة العلوم الأولى. دُرّس بها الطب والهندسة والصيدلة والفلك، وكتب بها العلماء مؤلفات شكلت أساس النهضة الأوروبية لاحقا. وعندما تقدم العرب سياسيا وعلميا، تقدمت لغتهم، ودوّنت بها أعظم المؤلفات العلمية، لأن أهلها كانوا في موقع الريادة السياسية والاقتصادية والعلمية، وهو ما جعل لغتهم تتصدر المشهد الحضاري، وحين تراجعوا، تراجع حضورها العالمي.
بلاغة لا مثيل لها.. سر التفرد العربي
من أبرز ما يميز اللغة العربية عن غيرها، تفردها بعلم البلاغة والبيان، بما يضمه من استعارة وتشبيه وكناية ومحسنات بديعية وعلم معان. هذا البناء البلاغي المتكامل لا نظير له في لغات العالم، وهو ما جعل العربية لغة قادرة على الجمع بين الإيحاء والجمال والدقة. وقد عبر أمير الشعراء أحمد شوقي عن ذلك بقوله:
"إن الذي ملأ اللغات محاسنا .. جعل الجمال وسره في الضاد".
كما قيل فيها:
"فازت بركن شديد غير منصدع .. من البيان وحبل غير مضطرب".
بعد أخلاقي متجذر في بنية اللغة
لا تقف العربية عند حدود اللسان، بل تمتد إلى القيم والسلوك، ففي علوم النحو والإعراب شواهد على بعد أخلاقي عميق، كما في تعامل العلماء مع لفظ الجلالة، حيث اختار بعضهم توصيفه بـ"اسم منصوب على التعظيم" بدلا من مفعول به، تعظيما لله عز وجل. هذا البعد القيمي يعكس أن العربية لغة تحمل في علومها بعدا أخلاقيا متجذرا.
اليوم العالمي.. اعتراف أممي بمكانة العربية
في عام 1973، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة اللغة العربية لغة رسمية ضمن لغاتها الست، واختير الثامن عشر من كانون الأول يوما عالميا لها. كما أقرت اليونسكو لاحقا تخصيص أيام رسمية للاحتفال باللغات المعتمدة، في اعتراف دولي بدور العربية الحضاري، إذ يتحدث بها اليوم قرابة نصف مليار إنسان داخل الوطن العربي وخارجه.
واقع مقلق.. العربية في مواجهة التراجع
رغم مكانتها، يقر الدكتور بشار الشريف، بما تواجهه اللغة العربية اليوم من تحديات حقيقية، في ظل هيمنة اللغات الأجنبية، وتراجع استخدامها في التعليم والعمل، وظهور ظواهر لغوية هجينة مثل "العربيزي". هذا التراجع ليس لغويا فحسب، بل هو انعكاس لتراجع سياسي واقتصادي وعلمي، جعل لغة الآخر تتقدم في سلم الأولويات حتى داخل المجتمعات العربية.
التعليم.. من أزمة التقديم إلى نفور الأجيال
ويحمّل الدكتور الشريف المناهج التعليمية جزءا كبيرا من المسؤولية، مؤكدا أن العربية غالبا ما تقدم للطلاب بأسلوب معقد وجاف، بعيد عن التبسيط والجاذبية، ما يجعلها عبئا لا متعة. وفي المقابل، يتقن كثير من الشباب لغات أجنبية لأنهم تعلموها بأساليب حديثة ومحفزة، بينما لم تقدَّم لهم لغتهم الأم بالروح ذاتها.
العودة إلى الجذور: قرآن وشعر وأدب
ويرى الشريف، أن الحفاظ على العربية يبدأ بالعودة إلى القرآن الكريم حفظا وفهما وتدبرا، لما يمنحه من ثروة لغوية هائلة تقارب 40 ألف مفردة. كما يدعو إلى إعادة الاعتبار للشعر العربي، وحفظ النصوص الجزلة، ودراسة الأدب الرفيع لنماذج مثل الرافعي والمنفلوطي، لبناء حصيلة لغوية وقدرة تعبيرية سليمة.
الذكاء الاصطناعي.. تهديد أم فرصة؟
في عصر الذكاء الاصطناعي والثورة الرقمية، لا يرى الدكتور الشريف أن الذكاء الاصطناعي خطرا مطلقا على اللغة العربية، بل أداة مزدوجة، يمكن أن تكون فرصة لتطويرها ونشرها إن أحسن استخدامها، أو عامل تهديد إن أسيء التعامل معها. فالأداة محايدة، والفيصل هو وعي المستخدم وقدرته على توظيفها لخدمة لغته لا إقصائها.
اللغة هوية ورسالة إلى الأسرة والمدرسة
ويختتم الدكتور بشار الشريف بالتأكيد على أن اللغة هوية وجود، وأن التفريط بها يعني التفريط بالشخصية والانتماء. ويوجه رسالته إلى الآباء والمعلمين بضرورة تبسيط العربية، وتقريبها من عقول وقلوب الأبناء وقلوبهم، لأن الأجيال لا تحب ما يفرض عليها، بل ما يُقدم لها بمحبة وإقناع، فالدين واللغة معا يصنعان هوية الإنسان ووجوده.
اقرأ المزيد.. نداء عالمي لتأكيد دورها الحضاري